موضوع: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ} الأربعاء أبريل 22, 2009 4:29 pm
من دروس سيدي الشيخ الفقير الى الله تعالى سيدي الباسل رضي الله عنه وأرضاه
شيخ الطريقة النورانية المحمدية الربانية الإلهية
قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا واتـــــَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} الكهف/28
الحمد لله رب العالمين حمدا ًكثيرا ًطيبا ًمباركا ًفيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت مما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، أنت أهل الثناء وأهل المجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيـّه من بين خلقه وخليله، سيد العرب والعجم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته أفضل الأمم، الحمد لله الذي أنار الوجود بسيد الوجود.
أما بعد...
هذه الآية العظيمة حددت منهاجا ً للتقرب إلى الله عز وجل، وبدأ الله عز وجل الآية بالأمر بالصبر وحث النفس البشرية على الصبر في سيرها إلى الله سبحانه وتعالى مع أحبابه وأوليائه، وإن صبّرت نفسك معهم أنت منهم، وانظر إلى الهدف والنتيجة { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي نعمة ومقام أعلى وأعظم من هذا؟ وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع الذين يدعون ربهم، يقول أهل الله عز وجل في التفسير و قيل الصلوات الخمس، فالغداة تعني الصبح والعشي تعني الظهر وما بعده، وقيل الصبح والعصر، وبعضهم قال أنها الصلاة التي كانوا يصلونها قبل فرض الصلاة وهي ركعتان بالغداة والعشي، قال ابن عطية: (... ويدخل في هذه الآية من يدعوا في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم...).
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: ( لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ومن إعطاء المال سحا ) وقيل {يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } في جميع الأوقات وفي طرفي النهار والمراد بـ (هم) فقراء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب الرومي وخباب وبلال. روي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ( لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ) وقالوا: ( إن ريح جبابهم تؤذينا ) فنزلت الآية. وروي أنه لما نزلت الآية خرج صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إليهم وجلس بينهم وقال: ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه ). وقيل لما نزلت في بيان أهل الصفة وكانوا نحو سبعمائة، ثم وصفهم الله تعالى بالإخلاص فقال: { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي معرفة ذاته لا جنة ولا نجاة من نار، { ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ } أي لا تجاوِزهم بنظرك إلى غيرهم ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، { تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا } أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء والدنيا. { ولا تُطِعْ } في تنحية الفقراء عن مجلسك { مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا } أي جعلناه غافلا عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات وفي تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله سبحانه وتعالى حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل لا بتحلية الجسد بالملابس والأكل، { واتـــــَّبَعَ هَواهُ } ما تهواه نفسه { وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} ضياعا ًوهلاكاً وهو من التفريط والتضييع أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله تعالى تؤدي إلى اتباع الهوى الذي يؤدي إلى التباعد عن الحق والصواب. وفي الآية حثٌ على صحبة الفقراء والمكوث معهم، ففي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ المسلم الصادق بصحبة الفقراء السائرين إلى الله عز وجل يكتسب آداب سيره إلى الله عز و جل، ويقع له التهذيب والتأديب حتى يتأهل لحضرة التقريب، فبصحبة هؤلاء القوم تدوم حياة الطريق ويصل العبد إلى معالم الطريق. وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } قال القشيري: ( ... لم يقل واصبر قلبك لأن قلبه مع الحق تعالى فأمره بصحبة الفقراء جهرا ًبجهر واستخلص قلبه لنفسه سرا ًبسر... ). قال الورتجبي: ( ...اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء العاشقين لجمالي المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وصلي حتى يكونوا متسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال... ). { يُريدونَ وَجْهَهُ } بين أن دعائهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه شوقاً إليه ومحبة فيه من غير تعلق بغيره أو شغل بسواه بل همهم الله عز وجل لا غيره، قيل في الإحياء: "مَن يعمل اتقاءً من النار خوفا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة".
[center]ويقول أحد الصالحين: " الإخلاص ألاّ يريد صاحبه عوضا ًعليه في الدارين" وهذه إشارة لإخلاص الصديقين.
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } إذا كان ذلك أمر وحث من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على أن يصبر ويصبّر نفسه مع المؤمنين الصادقين فكيف يكون الحال بنا؟ كيف يجب أن نصبّر أنفسنا مع الله عز وجل وأهل الله عز وجل وأوليائه العظام؟ والشاعر يقول:
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يُحمَــــــــــــــدُ
النفس هي التي تأبى ذلك، تأبى السير والصبر لله سبحانه وتعالى في بدايتها ولذلك يجب مجاهدتها، لماذا؟ لأن الله عز وجل كما قلنا جعل في هذه الآية منهاجا ًوطريقا ًوغاية ونتيجة فيجب على النفس والعقل أن يدركا شيئاً من هذا الأمر لكي تسير النفس إلى ذلك، ومع أن الصبر مراتب وفي كل المراتب هو خير، فمثلا الصبر على المرض والبلاء والصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على البعد عن المعصية، فكيف بالصبر مع حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأحبائه على طريق عبادة الله عز وجل ومعرفته ابتغاء وجه الله الكريم؟ فهنا يخاطبنا الله عز وجل بأنه يجب علينا أن نصبّر أنفسنا مع أحبائه لأنه مَن صبر معهم فهو منهم أما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف بالمصبِّر نفسه على ذلك؟ إياك أن تنازعك نفسك على غير ذلك فإن في ذلك الهلاك لك ولنفسك التي نازعتك، يقول الله عز وجل { إنّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونُ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر/١۰. والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( الصبر نصف الإيمان ) إذا كان الصابرون بشكل عام يوَفــَّوْنَ أجورهم بغير حساب فكيف بأعظم الصبر وأحبه إلى الله عز وجل وهو في الصبر وتصبير النفس في سيرها لله عز وجل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى؟! كيف ستكون محاسبة الله عز وجل لهم وتوفية أجورهم؟! طبعا نفسك سترفض السير لله عز وجل لأن في ذلك قمع لشهواتها، فهي ستعارض ذلك لأنها لا تدرك عظمة لقاء الله سبحانه وتعالى. إن ما يجب عليك معرفته هو إنها سترفض كل ما يخالف هواها وميلها إلى ما تشتهيه وتلذذ به، ومن هنا وجب على عقلك أن يدرك حقيقة وجودك ولما وجودك في هذا الوجود؟ وأن هذه الآية منهاج لتنفذ هذا الأمر وتعلم حقيقة وجودك، إذا أدرك العقل ذلك فَرَضَ سلطانه على النفس وعندئذ سيسهل عليها أمر السير إلى الله عز وجل مع المجاهدة، وعندئذ سيتذوق القلب حلاوة هذا الحال. ثم يقول الله عز وجل: { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ } كلمة مع { الذينَ } يكفيك بهذا شرفا ًوأي شرف! يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( المرء مع من أحب) فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، صبّروا نفوسهم في بدايتها وجاهدوها في متابعة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وبعدها أصبحت نفوسهم هي تشتاق لذلك. وجعلوا نفوسهم في وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومصداقا ً للحديث الشريف: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئتُ به ) فعندما تسمع هذه الآية { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } ألا ترى فيها غاية الجمال وقمة الكمال؟! يدعون من؟؟ ربهم الذي خلقهم وهو أدرى بهم، والدعاء هنا شامل لكل أنواع العبادة، فهم يدعون ويصلون ويلجئون ويطلبون ويسألون ربهم أن يجعلهم له لا لغيره، واعلم أنه لا يكون في هذا الطريق إلا من رضي الله تعالى عنه، إنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي أي يومهم كله ليلهم ونهارهم مع الله عز وجل، لا تفتر ألسنتهم عن ذكره عز وجل، ولا تخرج قلوبهم من حضرته، ويفيض على أرواحهم من فيض تجلياته، فصبّر نفسك كي يصبح حالك كحالهم، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( من أحبَّ قوما ً حُشِر معهم ).