إليكم وجبة العشاء الأخير.. أيها الشعب الناكر للجميل ساحة الاشتباكات تتسع وأنباء عن حريق بالكنيسة واحترقت الكنيسة
هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها بعد قيام انتفاضة 25 يناير الثورية
والخوف يتملكني من مفرق رأسي وحتى أخمص قدمي، المرة الأولى التي أشعر فيها
أن مصر تعاني معاناة حقيقة في غرفة الإفاقة بعد العملية، عملية جراحية
استأصلت فيها من داخل جسدها ورما سرطانيا ضخم الحجم، ولم يبقَ أمامها الآن
سوى خيارين؛ إما أن تقاوم وتتمسك بالحياة وتنهض سليمة معافاة، أو أن تستسلم
للسرطان وتموت مع من مات.
الحكاية بدأت يوم السبت الماضي أثناء تنفيذي للمناوبة الليلية بصالة
التحرير، يوم هادئ على غير العادة، ضغط الأخبار متوسط المستوى هذا اليوم،
رئيس المناوبة الليلية لا يتوقف عن تبادل النكات والقفشات مع باقي الصحفيين
الساهرين، كسر حالة المرح رنين هاتف قسم الحوادث، يتناول السماعة الصحفي
المختص، يرد بهمهمات متتالية بينما يدوّن الأخبار، تتغير ملامح وجهه ويلتفت
لمدير التحرير وينادي عليه من أول الصالة:
أستاذ محمد.. اشتباكات بين سلفيين وأقباط أمام كنيسة مارمينا بإمبابة وأنباء عن سقوط ضحايا.
تلبّد المكان بغيوم القلق، حادثت نفسي في صمت أملا في طمأنتها:
كارت أخير فاشل ومحروق من فلول النظام لهدم النظام،
تبدد الاطمئنان مع تواصل الأخبار، هناك وفيات، الأعداد تتزايد، سارينة
سيارات الإسعاف لا تتوقف عن الصراخ، ساحة الاشتباكات تتسع لتشمل شوارع
رئيسية بمنطقة إمبابة، هناك حرائق بالكنيسة.. احترقت الكنيسة.
رحلت مع نهاية الليل أملا في أن تمر هذه السحابة الكئيبة دون أن تلقي ما
في أمعائها من أمطار طائفية، غمّتني رسائل BBC الإخبارية، سقط 4 ضحايا،
نمت داعيا الله عز وجل أن يتوقف حمام الدماء، ولكن استيقظت على ما هو أسوأ،
تضاعف العدد وأصبح 10 وفيات ثم 12 كلهم أموات، الاشتباكات تتسع لتشمل
منطقة بولاق أبو العلا بين متظاهرين أقباط وأهالي المنطقة، أصدقاء لي
يتحدثون عن احتقانات طائفية بالمعصرة وحلوان يسعون جاهدين لوأدها، دفنت
رأسي بين راحتي: يبدو أننا ابتلعنا الطعم وتحوّلت ساحة الاحتقان الطائفي
لتشمل مصر كلها، وأنا لا أكفّ عن ترديد نفس السؤال..
ليه كده؟!
ليه كده؟ كيف قبلنا هذا الطعم "الأهطل" بهذا الغباء العبقري؟ كيف سلّمنا
مصر لمن يكرهون مصر بهذا الشكل المؤلم؟ لماذا نرسم لمصر صورة مشوهة بفرشاة
المولوتوف والرصاص ولوّنّاها بالدماء؟ هل يسهل الوصول لتفسير عقلاني لمشهد
جنوني تتحول فيه مصر كلها لساحة فتنة طائفية على أرض سجّلت براءة اختراع
في تقديم مفهوم فريد من نوعه لمعنى التعايش بين شخصين يرى كل منهما الله
بمنظور مختلف، ولكنهما مع ذلك يتشاركان الأرض والهواء واللقمة؟؟
هذا ما توصّلت إليه وسط حالة من غياب المعنى وضياع المعيار؛ حتى لا
يسيطر علينا ويعشش فينا الدمار، هذه هي الخلطة السحرية التي استوت بفضلها
وجبة الفتنة الطائفية؟ ها مقادير الطبخة كما أراها رأسا من مطبخ الشيف بشرم
الشيخ.
مقادير الطبخة1- اتنين كيلو سلفيةأي نعم، كانت هذه أول مكونات الطبخة، الاستعانة بمجموعة من ذوي اللحى
دون ترتيب مباشر، مستغلين تراكم فكري في الأذهان يقول باستحالة العيش
والتعايش في أمان، النفخ في نيران هذه الأفكار وتأجيج مبدأ "يا أنا يا
أنت"، وترسيخ للسؤال الجدلي:
هي بلدنا ولا بلدهم؟ والاستعانة بآيات القرآن في غير مكانها: {
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ومن غير المعقول أن تستوي الطبخة دون أن نغذّي النيران، فهذه كاميليا
شحاتة أسلمت، فنصّروها كرها (رغم أنها أعلنت أنها لا أسلمت ولا تنصّرت، بل
هي مسيحية في كل الأزمان.. مضارع ومستقبل وخبر كان) وهذه عبير المزعومة
التي كانت مسيحية في أسيوط وأصبحت مسلمة في القاهرة، واختطفت في إمبابة، هل
رأيتم عبير؟ لا لم نرها، ولكننا سنستردها وإن كانت غير موجودة، ويشتعل في
أذهانهم السؤال، الغلبة لنا فكيف يغلبوننا؟ إذن فهي القوة.
2- كام جرام فتنة طائفية على حبة قهر لكنيستنا المسيحيةشريحة عريضة من المسيحيين راقت لها فكرة الأقلية، فدعّموها وأشعلوها
وإلى أمريكا أرسلوها، نحن الأقباط المقهورون في الأرض؛ كنائسنا حلال لهم،
وفتياتنا تُختطف ليتحولن لدينهم، ويستعبدوننا وهي ليست أرضهم، فيصرخ مايكل
منير ويجهّز أوراقه المحامي نجيب جبرائيل، المادة الثانية تهمّشنا وتهددنا
بمقاصل الإسلاميين، أيها العم سام تصرّف أو إنا لمتصرفون، يصمت العم سام
أحيانا ويتصرف أحيانا، ولكنه صمت مؤخرا فلم يُبقِ خيارا سوى ابتلاع الطعم
بسذاجة ممنهجة، فيلهثون وراء الفتاة التي أحبّت فهربت، ويستدعون قوات
الاحتياط من المنشية وعزبة بخيت من الأقباط.
مشهد النهايةوهذا هو مشهد النهاية كما رأيته بأم عيني، الشيف يبتسم باعتزاز وتقدير..
بعد أن ضبط المقادير.. لطبخة رائعة أعدها لشعبه ناكر الجميل.. وقدّمها لهم
تحت اسم (العشاء الأخير).
بالشفا يا مصريين!!