الشرطة في ورطة! الشرطة التي كانت مرعبة للجميع أصبحت "الحيطة الواطية" لكل من هبّ ودبّ
يكاد يكون جهاز الشرطة شريكا في عمليات الشغب
والفوضى والانفلات التي تعم البلاد حاليا.. إن لم يكن شريكا فاعلا فهو شريك
بسلبيته المفرطة في التعامل مع مواقف التعدي والانفلات المتعددة..
السطو
على قسم شرطة الساحل وإخراج المساجين بداخله بالقوة.. الهجوم على قسم شرطة
الطالبية واقتحامه لإخراج المحتجزين.. وبالتأكيد هذان ليسا الحادثين
الوحيدين، مما يضع علامة استفهام كبرى حول دور الشرطة، ومدى قدرتها على
القيام بمهماتها.. وتعالوا ننظر للأمر نظرة واقعية، بعيدا عن خطب الوعظ
السياسي، واللعب على أوتار المشاعر..
جهاز الشرطة هو الجهاز المفترض
به حماية أمن البلاد الداخلي، ويقدّر عدد قوات الأمن بنحو مليون ونصف
مليون شخص، أي أن كل سبعة مواطنين لهم شرطي يحميهم ويدافع عن أمنهم.. اختفت
الشرطة جميعها بعد يوم جمعة الغضب (28 يناير) ولم يعد لهم أثر.. وأخرج
المساجين وعتاة الإجرام من السجون، وتحدّث الجميع عن مؤامرة كبرى لخلق حالة
من الفوضى؛ للقضاء على الثورة.. واستمر غياب الشرطة كلها فترة طويلة، حتى
أُعلن منذ أسابيع عن عودة الجهاز الأمني لدوره في حماية أمن المواطنين..
ولكن لم يشعر أحد بوجود فعلي للشرطة، خلا شرطة المرور التي عادت مبرمجة على
الإشارة بالأيدي "سِرْ - توقّفْ" مثل الإشارة الضوئية تماما، دون احتكاك
فعلي بالجماهير، ولا تحرير مخالفات ولا أي مهمة حقيقية.
لماذا تمادت
عناصر الشرطة في الغياب عن أداء دورهم؟ وهل هناك أسباب منطقية لغيابهم؟
يقال إن الشرطة تخشى مواجهة المواطنين بعد انتهاء عهد التعذيب والبلطجة
الأمنية، ثم عقاب الناس على قيامهم بالثورة بالغياب الأمني التام؛ وناشدت
الجماهير جهاز الشرطة العودةَ وأنهم سيساندون الشرطة في العودة إلى
مواقعها، وسيحمون عناصرها من غضب الجماهير؛ فعودة الشرطة في صالح المواطن
بالأساس، والمفترض أن هناك مهمة لا بد أن تؤدّى، ومسئولية لا بد أن تُحتمل،
ودورًا واجبًا تحت أي ظرف.
والحقيقة -في تقديري- أن الشرطة تمادت
في الغياب، وأطالت في الدلال على المصريين، وفرّطت في مهمتها، ولم تكن على
قدر مسئولية حماية أمن الوطن والمواطن.. أتحدث عن منظومة الجهاز الأمني
ككل، مع تقديرنا لجهود الرجال الشرفاء الذين لم يتأثر عملهم بما يجري في
الشارع.. ولكن أغلب عناصر الجهاز الأمني تعاملوا مع الواجب برخاوة، ولم
يقوموا بدورهم في ظرف دقيق..
والسؤال: لماذا لا تتحمل الشرطة
مسئولياتها في مثل هذه الظروف؟ ولماذا تنسحب من المواجهة؟ هل هذا عدم قدرة
أم عدم رغبة، أم مساهمة في إحداث الفوضى والانفلات؟ أيًّا كانت الإجابة
فالشرطة مشارِكة بشكل أو بآخر في عملية تُدار ضد أمن الوطن وضد الثورة..
إذا
كان جهاز الشرطة غير قادر على حماية الوطن من تهديدات البلطجية، ولا
يستطيع حماية منشآته من الأسلحة البيضاء؛ فليعترف بأنه دون المستوى، ولا
يلصق عجزه بغيره، وإذا كان أفراد الأمن غير مؤهلين لمواجهة الشغَب، وهم
الذين ظلوا دهرا يتحكّمون في مصائر العباد وإدارة شئون البلاد، فليقم
المسئولون بأخذ الموضوع بجدية حقيقية؛ لمحاسبة جهاز لم يقم بمهامه المنوطة
به..
الأمر فعلا بحاجة إلى تفسير: الشرطة التي كانت مرعبة للجميع
أصبحت الآن "الحيطة الواطية" لكل من هبّ ودبّ.. فماذا كان مصدر قوتهم في
السابق؟ فقط قانون طوارئ يتيح التوحش دون حد أقصى، أم تجنيد البلطجية
لخدمتهم والسيطرة على شرّهم بمداهنتهم، أم ببث الرعب في نفوس المواطنين
والاستئساد عليهم بالقهر؟.. إذا كانت الشرطة تقوم على أحد هذه العوامل ولا
تستطيع أن تكمل بعد أن انهارت هذه العوامل، فنحن بحاجة إلى جهاز أمني جديد
يقوم على المصداقية والشرف والشجاعة وحب الوطن والخدمة الحقيقية للمواطن،
أو إعادة تأهيل الجهاز على آليات عمل جديدة للتعامل مع المواطن ليس منها
التعذيب ولا الطوارئ، وليس منها كذلك الاستسلام للبلطجية..
أي خلل
يحدث في مؤسسة من مؤسسات الدولة يجب أن يُنسب إلى أصحابه وليس لعوامل
خارجية، فما كان للعوامل الخارجية أن تنال من كيان قوي. ولولا ضعف حقيقي في
جهاز الشرطة؛ لما أقدم البلطجية على الاستهزاء به والتعدي عليه..
هذا
إذا كانت الشرطة بالفعل عاجزة عن حماية نفسها، فما بالك إذا كانت شريكة في
مدّ حالة الفوضى الأمنية وبسط نفوذ الرعب على ربوع البلاد، وهدم منجزات
الثورة أو جعل ثمنها باهظًا أكثر، وهو طرح قابل للتصديق لو لم يكن هناك
تفسير آخر منطقي.
الطريقة الرخوة التي يتعامل بها جهاز
الشرطة مع مهمّاته تحتاج إلى تفسير.. حتى لا تذهب الظنون إلى احتمالية
تواطؤ مع مدبّري حوادث الانفلات الأمني.