مبارك صار أسيراً لديكم أيها المصريون! إنني أتوجّه برسالتي هذه إلى المواطن المصري محمد حسني مبارك
أعرف أنني سأدخل بمقالي هذا في حقل ألغام قاتل، وأؤكد أنني
أعبُر فيه بمفردي، وأُعبِّر فيه عن رأيي الشخصي، وأبرئ الموقع من تحمّل
مسئولية كلامي هذا..
لقد جاءتني الأخبار بأن الرئيس
السابق في العناية المركزة بمستشفى شرم الشيخ ويتم التحقيق معه، وتساءلت:
أهذا ما انتهت إليه أخلاقنا؟ حتى ولو كان هذا الرجل بلغ من العمر أرذله،
ووقع بيننا بعد ظلمه، أهكذا نسحقه بأقدامنا ولو كان عدواً؟
حينها
قلت في نفسي: ليتكم تستمعون من قلبي لرجل جاءكم من أقصى المدينة يسعى، أن
يا قومي اتبعوا في مظالمكم خطوات المرسلين؛ ولكن هيهات وقد انقسم
المطالبون بالثأر لفئتين:
-
فئة أصحاب المصالح،
وذوي القلوب السوداء، الذين لا يعرفون أن مِن قِيَم النبلاء أنهم إذا
قدروا عفوا، ولا يُدركون أنهم يدورون بمصر في دائرة الانتقام المقيتة، تلك
الدائرة التي تضيق بصاحبها حتى تُهلكه قبل أن يهلك عدوه!
وفئة أخرىلا أملك إلا أن أنحني احتراما لها، وتقديراً لوفائها، تتمثل أمامها دماء
الشهداء الأبرياء، والجرحى، وأهلهم الثكلى الذين تحسّرت قلوبهم على ذويهم،
ولا يجدون من دون القصاص بديلاً.. ولهؤلاء عذرهم فهم يطالبون بالعدل الذي
كانوا عنه يبحثون.
ثم تتابعت الأخبار، ووصلني نبأ حبس الرئيس مدة
خمسة عشر يوماً على ذمة التحقيقات، ورأيت الشماتة تطلّ من بعض العيون،
ولهجة التشفّي تخرج من عمق الصدور، وقلت في نفسي: ليس هذا هو وجه مصر الذي
كنا نتمنى أن نراه بعد الثورة؛ فإن كان مبارك فاسداً فكثير منا كانوا
فاسدين..
وفي الوقت الذي كنت أعذر فيه الثكلى على جرحاهم
وشهدائهم، وأتمنى منهم العفو عنه، كنت أقول لأصحاب المصالح وتصفية
الحسابات: لست معكم؛ لأنني أراكم تصرّون على إعدام إنسان ميت؛ فليتكم
تعلمون أن الانتقام الذي تتطلعون إليه لن يشفي صدوركم؛ بل سيثبّت أركان
الغلّ فيها، والأموال التي تتعللون أننا إذا حاكمناه سنستعيدها منه، لن
تغنينا بأكثر مما سيغنينا العفو عنه.
ولم يبقَ لي إلا أن أقول لي ولكم:إن
المواطن المصري محمد حسني مبارك جعله الله أسيراً لديكم أيها المصريون،
بعد أن أذهب الله عنه ملكه وجاهه وسلطانه؛ فإذا بلغ العبد ثمانين سنة؛
فإنه يُدعى "أسير الله في الأرض"؛ فأحسنوا إلى أسيركم، وارحموا ضعيفكم.
أما وقد سَبَق السيف العذل، وأتى أمر الله؛ فإنني أتوجّه برسالتي هذه إلى المواطن المصري محمد حسني مبارك، وأقول له:
يا سيدي
أنا واحد من الذين ظُلِموا في عهدك، ومن الذين كانوا
يرفضون حكمك، وطالما كتبتُ ضدك؛ ولكن ذلك حين كنتَ فارساً يخشوْن سطوتك،
ملكاً مطاعاً على عرشك، تحتمي بجبروت ملكك.. أما وقد سقطت من على جوادك،
وتحطمت إرادتك، وأصبحت لا حول ولا قوة لك؛ فلا أملك إلا أن أقدّم يد
السماح إليك، وأجدني مشفقاً عليك، رافعاً يدي إلى الله بطلب العفو عنك.
أتدري
لماذا يا سيدي؛ لأنني مصري عِشت في عائلة من البسطاء الطيبين، الذين
دائماً ما يسعون بفطرتهم إلى أن يعفوا عمن ظلمهم، ويُعطوا من حرمهم،
ويصلوا من قطعهم؛ فإن قال المطالبون بالقصاص منك إنني عاطفي ساذج، وإن
عاطفتي سطحية بلهاء مثل عامة المصريين؛ سأقول لهم: لا تغالطوا أنفسكم؛
فهذه العاطفة هي التي جمعت الشعب حولكم حين قلتم "كلنا خالد سعيد"، وهذه
العاطفة هي التي جعلتهم يتدافعون بالآلاف في الشوارع والميادين ليهدموا
-بإذن من الله أركان- دولته..
إن هذه العاطفة يا سيدي التي حركتنا ضدك؛ هي نفس العاطفة التي تجعلنا نختلف الآن مع أحبابنا لنواري بها سوءتك..أقول
لك هذا وأنا أسمع كثيراً من الأصدقاء المسلمين يضيقون بك ويتوعدون لك؛
فأبتسم وأنا أتذكر نبي الرحمة حين قام لجنازة يهودي ممن كانوا يناصبونه
العداء؛ فتعجب الصحابة وقالوا: إنه يهودي يا رسول الله؛ فأجابهم: أوَليست
نفساً..
إني أسامحك يا سيدي؛ لأنني منذ نعومة أظفاري دخلت المسجد
وقرأت القرآن، وعلمني شيخي أن "العين بالعين"؛ قالها الله لمن لا يستطيعون
على مرارة الظلم صبراً، ولا يجدون إلى التسامح والعفو مسلكاً، أما النبي
ومن تبعوه بإحسان إلى يوم الدين؛ فوجههم إلى أن من عفا وأصلح فأجره على
الله؛ بل أمره وأمرهم بالصفح الجميل.
أسامحك يا سيدي لأن ربنا الذي نؤمن به وهو العزيز كتب على نفسه الرحمة، وقال لنبينا
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}؛ فأدى نبينا الأمانة، وبلّغ الرسالة، وأخبرنا أن من لا يَرحم لا يُرحم..
أقولها
لك وحولي أصدقاء مسيحيون يتعجبون من قولي، وكأنهم يقفون موقف الحواريين،
بعد ما سمعوه من فساد في عهدكم، وما رأوه من ظلم على يديكم، حين رأوك
تسقط، وكأنهم رأوا جسدك البالي، يقولون: ما أنتن رائحته.. وأستلهم قول نبي
الله عيسى؛ فأقول لهم: وما أبيض أسنانه.
أسامحك يا سيدي، وأعلم أن
مصريين كثيرين مثلي يسامحونك، ولا يتمنون رؤياك في أسوأ مما رأيناك عليه؛
فمصر بلد المسلمين والمسيحيين، علّمهم نبينا محمد ونبيهم عيسى عليهما
السلام، أن حقيقة الدين هي الحب والرحمة والتسامح والعفو..
وإن
كنت أتمنى أن تسبق قدم الموت نحوك أقدام الثائرين عليك، وأن تقبض يد من
عند الله روحك قبل أن تصل أيديهم إليك؛ فإنني لا أستطيع أن أتغافل عن أن
هذا هو حكم الله فيك
{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}..
وأتذكر -وأنا أحدّثك- رجلاً ظلّ يطلب من سيدنا موسى أن يدعو ربه أن يرفع
عنه البلاء ويرحمه منه.. فلما سأل موسى ربه، أجابه الله بأن:
"يا موسى كيف أرحمه.. مما به أرحمه"
فلعل ما أنت فيه هو عين الرحمة من الله لك؛ فسامحك الله وتغمدك بعفوه، وحفظ الله مصر وأهلها إلى يوم الدين.