فور سقوط مؤسسة أمن الدولة انطلق المنتسبون للسلفية كأنما كانوا محبوسين في قمقم -وقد كانوا بالفعل للأمانة- في "هوجة سلفية" عاتية؛ ففي مدينتي الإسكندرية نشروا في مجمع الكليات النظرية سماعات ضخمة تبثّ القرآن الكريم بصوتٍ عالٍ وبشكل فَجّ لا يُناسب تكريم كلام الله عز وجل، وفي كلية الهندسة غطّت ملصقاتهم ولوحاتهم الجدران، وانطلقوا يصلّون جماعة في الطريق العام بالكلية بشكل استعراضي جدًا، خاصة مع وجود أكثر من مسجد ومكان للصلاة بالمكان، تركوها وخرجوا للطريق العام للكلية.
"هوجة" سلفية ومن قبل سقوط أمن الدولة كنّا نسمع عن المؤتمرات السلفية برعاية كبار شيوخ السلفيين، معظم تلك المؤتمرات يُعقَد لمناقشة حماية "المادة الثانية" ورفض "مدنية" الدولة ونبذ "الديمقراطية"، والمناداة بأن تكون الدولة المصرية القادمة "إسلامية"، وهو الأمر الذي يعكس سوء بل انعدام فهم للمصطلحات السياسية وللنظم القانونية والسياسية، وتجاهلا شديدا لحقيقة أن على من يُفتي بحرمة أو إباحة هذا الشيء أو ذاك أن يكون دارسًا له بعمق، عالمًا بكل جوانبه، لا مجرد قارئ له.. (أذكر أني ذات مرة وجدت صديقًا يضع دعوة لحضور أحد هذه المؤتمرات، فأكدت له أن غالبية التيارات لا تريد تغيير المادة الثانية، فأجابني وأذهلني: "لا بس احتياطي برضه!").
وخرجت بعض الممارسات السلبية من بعض لا كل "المتأسلفين"، ولكن هذا الـ"بعض" كان نسبة ضخمة جدًا بشكل يلفت النظر، وكانت الممارسات بالفجاجة والفظاظة والغشومية الكافية للفت النظر وإثارة الامتعاض، والشعور بالعار من انتساب أصحابها للسلف الصالح، أعني بتلك الممارسات ما جرى قبل وخلال يوم الاستفتاء من "قمع معنوي" للبسطاء وتشويه للحقائق وكذب مفضوح حول أن التصويت بـ"لا" في الاستفتاء هو رغبة شيطانية لأعداء الإسلام؛ رغبة منهم في أن يأتوا بدستور جديد ليست فيه المادة الثانية التي تنص على أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع.
ومع الأسف ساهم بعض الشيوخ في تلك المهزلة، كالشيخ حازم شومان الذي ظهر في الفيديو وهو يقيم "مناحة" في حشد شعبي بإحدى المناطق البسيطة، يحذر فيه الشعب من تلك "المؤامرة" على إسلامية مصر، والرجل قد تراجع عما قال، وأكّد أنه لم يقصد أية إساءة لأحد، ولكن بعد "خراب مالطة"..
وأما الشيخ محمد حسين يعقوب، فكانت مشاركته بمباركة ما أسماه "غزوة الصناديق" (ملحوظة: مصطلح الغزوة لا يُطلَق إلا على معركة حضرها الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يعطيه قدسية خاصة، فاستخدام الشيخ له في غير محله إساءة بالغة لا يصحّ أن تأتي منه هو بالذات، فاستخدامه له إما يعني جهله بتلك الحقيقة، أو تجاهله لها، أو أنه مثلاً كان يعتقد بحضور الرسول معه يوم الاستفتاء!!).
واعتذار الشيخ جاء مصيبة كمصيبة الفيديو الأول، فقد برّر ما حدث بأنه "من فرط الفرحة"، أية فرحة تلك التي تستدعي تكبيرات العيد في حشد كبير؟ كما برره بأنه كان في "جلسة خاصة بالمسجد" (!!) هذا على أساس أن المسجد ليس مكانًا عامًا ذا قدسية؟ المسجد ليس صالون بيته ليعتبر أن له خصوصية فيه، هذا فضلاً عن أن الفيديو كان موجودًا على الموقع الخاص بالشيخ، مما ينفي مسألة التسجيل له خلسة!
شيء مخجل الحقيقة! وفي المقابل، جاءت مواقف محترمة من بعض الشيوخ، كالشيخ أبو إسحَق الحويني الذي قال بالوجوب الشرعي للمشاركة في الاستفتاء، ولكنه لم يقل بوجوبية التصويت بهذا الخيار أو ذاك رغم اعترافه بعدم رضاه عن التعديلات، وكذلك الموقف الراقي للشيخ محمد حسان الذي أكّد نفس الأمر، وناشد بحرارة المستمعين إليه أن يكونوا إيجابيين ويذهبوا للتعبير عن رأيهم أيًا كان.. أما الشيخ محمد عبد المقصود عفيفي، فهو يستحق ما هو أكثر من التحية والشكر..
رقيّ الفقهاء الشيخ محمد عبد المقصود عفيفي، المُلَقَّب بـ"فقيه مصر"، هو أحد كبار شيوخ السلفية الحقة التي لم تُلَوّث بالتزمت والتنطع والتعصب المقيت، والذي يشهد له الجميع بالتواضع والعلم الغزير والاحترام، فضلاً عن مشاركته في الثورة المصرية منذ بدايتها بصدق وقوة، الحقيقة أني لم أكن أعرفه قبل ذلك اليوم الذي أرسل لي فيه أحد الأصدقاء فيديو له يعلّق على ما يجري من المنتسبين للسلفية هذه الأيام..
في الفيديو يظهر الشيخ الجليل واقفًا على منبره يهدر بالتقريع للذين أقاموا الدنيا ولم يُعقدوها لأجل المادة الثانية، وتمحوروا حولها وحوّلوها لقضية الساعة، متهمًا إياهم بالعبث وإضاعة الوقت ومحاولة الاستعراض من منطلق إحساسهم بأن السلفيين قد فاتهم القطار، ولائمًا إياهم على التدخل في شئون السياسة التي لا يفهمونها والالتهاء عن قضايا الوطن، وضرورة توعية الناس لبنائه وتطويره وتحريك عجلات إنتاجه، ثم انتقل الشيخ لواقعة مؤسفة هي قيام بعض شباب السلفية بالبصق على صحفية بـ"المصري اليوم"؛ لأنها ليست محجبة، فهاجم الشيخ هؤلاء الهمج، وأدان ما فعلوه، وفي فيديو آخر عرض الشيخ في مداخلة تليفونية على الصحفية ضحية تلك الممارسة البربرية أن تردّ البصقة له لو كان في هذا ترضية لها (!!) كما انتقد بشدة النزعة الاستعراضية لبعض "المتأسلفين" الذين يسيرون في الطرقات وكأنما يحملون لافتة مكتوب عليها "أنا سلفي"!
عندما سألت صديقي السلفي عن هذا الرجل المحترم أكّد لي أنه من كبار الفقهاء المنتمين للتيار السلفي، وأنه رجل وسطي يُجمع الكل على احترامه وإجلاله..
شاهدت الفيديو أكثر من مرة، وفكرت: هذا رجل أخيرًا أستطيع أن أصفه بـ"السلفي" وأنا مطمئن، فهو لا يحبس نفسه في البحث بملقاط ومنظار مكبّر عن كل ما يمكن تحريمه، لا يتعامل مع "الآخر" المختلف عنه في الرأي والرؤية بنبذ وإقصاء وكراهية ورفض، لا يوافق على سلبية اعتزال الحياة والإغراق في التعبد، لا يحاول تبرير أو تجميل أو تخفيف وطأة التصرفات الخاطئة لبعض المتأسلفين كما يفعل بعضهم لبعض (أقول بعضهم وليس كلهم)، وأخيرًا وهذا الأهم، لا يتعامل مع من يختلف معه في المنهج بطريقة "نحن وهُم" فالجميع لديه "نحن". هذا رجل سلفي حقيقي، بَنَى سلفيته ليس على لحية وجلباب، بل على فهم حقيقي لأخلاق الإسلام، ولقاعدة "الدين المعاملة"، ولأخلاقيات السلف الصالح ورقيهم الذي كان أكبر داعٍ للإسلام في أرجاء الأرض. فلَيت كثيرا من المنتسبين للسلفية يتعلمون من هذا الرجل.
ختام رأينا نموذجين، الأول لشيخ منتسب للسلفية أثار الفتنة بتصرفه غير المسئول، ثم قدّم عذرًا أقبح من ذنب، وراوغ ورفض التحلي بالشجاعة الأدبية والاعتذار، وشيخًا بذل جهده لإجهاض الفتنة ووقف في وجه من أثاروها، وعرض -بكل تواضع- أن يُكَفّر عن ذنب لم يرتكبه -وأعني البصق على الصحفية- والسؤال الآن: لماذا لا نسمع اسم هذا الشيخ الجليل محمد عبد المقصود عفيفي، كما نسمع غيره من الأسماء التي -بصراحة شديدة- أراها أقلّ منه قامة؟ لماذا تملأ علينا الفضائيات وجوها عِدة لا تمثل قدوة حقيقية للراغبين في السير على منهج السلف، بينما لا يأخذ هو حقه في الظهور؟ صحيح أن هذا يتناسب مع طبيعته المتواضعة البسيطة، ولكن أليست تلك الطبيعة بالذات مما ينبغي أن يتعلم منه المتديّنون؟ بصراحة أنا أرى أن مجرد متابعة الأسلوب الراقي للشيخ في التعامل مع الإساءة للصحفية سالفة الذكر ضحية الإهانة أكثر إفادة ألف مرة من متابعة شيخ يعيد ويزيد في "التحريم والتحريم فالتحريم ثم التحريم والمزيد من التحريم" أو شيخ آخر يستنكر أن تمارس المرأة التعليم؛ باعتبار أن المرأة بطبعها -على حد قوله- "جاهلة ومقلدة"! هل هذا الظلم الإعلامي للشيخ خلال الفترة الماضية يمكن اعتباره أمرًا مقصودًا من "جهات ما" كانت لا تريد لـ"الإسلام الأخلاقي" أو "أخلاقية الإسلام" أن تنتشر وتظهر، و"جهات ما" أخرى كانت تخشى منه أن يسحب البساط من تحت أقدامها ويكشف تعصّبها وتزمّتها وسطحيتها المفرطة؟ وهل يمكن أن نأمل أن يبدأ العهد الجديد بإعطاء هذا الشيخ وأمثاله حقهم في الظهور والانتشار وتقديم الصورة الراقية الحقيقية للمسلم المتدين غير المتعصب ولا المتزمت ولا المتنطع؟ لعل وعسى.. آمل خيرًا إن شاء الله.. وأرسل من جديد التحية لذلك الرجل الذي فضحت أخلاقه العالية الكثيرين ممن حملوا لقب "السلفي" دون وجه حق..
تحية لك يا شيخ محمد عبد المقصود عفيفي!
شاهد الشيخ محمد عبد المقصود ينتقد التيارات السلفية المتزمتة
آهـٌ‘ـلآ وسـٌ‘ـهـٌ‘ـلآ بـكـم فـى مـنـتـديـآت 
