موضوع: حياتي في الجنة .. أمنيات وتساؤلات الثلاثاء نوفمبر 16, 2010 11:02 am
أوسلو في 9 أكتوبر 2007
لا أستطيع أنْ أتخيل للحظة واحدة أن نارَ سَعَر، اللوّاحة للبشر والتي تقول هل من مزيد ستبتلع جسدي رغم ذنوب وآثام طوال عمري كنت عند حسن ظني بربي فغفرها لي، وأدخلني فسيحَ جناته برحمته التي وسعت كل شيء. صورة الجنة في مخيلتي ليست كما خاض في وصفها آلاف العلماء والفقهاء، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
تركت لنفسي أن تنهل من رحمة الله في الآخرة قبل يوم القيامة، وأن تتخيل، وتحلم، وتضع حيرتها وتساؤلاتها وأمنياتها كأن الساعة قامت، وقيل بأن أحباب الله في جنات وعيون، ومقام أمين. هل هناك مانع أن أترك لخيالي العنان منطلقا من ثقتي بربي، وحسن ظني بمالك المُلك الذي لو كان لدى الخلق كلهم خزائن رحمته لأمسكوا خشية الانفاق، فأصف بعض مشاهد حياتي في الجنة؟
أول شيء سيبث الحيرة في نفسي هو أن كل مَن في الجنة سيعود إليه شبابه، ولا أدري حقا هل سيكون في الخامسة والعشرين من العمر أو أقل أو أكثر، ولكن الحيرة في تصوري لمليارات من البشر في جنة الخلد وكلهم في نفس العمر، ويتمتعون بالقوة والصحة والعافية. هذا يعني أنني سأكون شابا في عمر والدي، رحمه الله، وسيقدّم والده لي، أو جده أو حتى الجد الأعلى، وكلهم شباب في الخامسة والعشرين تقريبا، ولم أنس أن أولادي وأحفادي وربما أجيال من صُلبي لمئات الأعوام القادمة سيدخلون الجنة، وكل منهم في مثل عمري. الخلود في الجنة يعني أن لا موت اطلاقا، وربما أعيش عدة ملايين من السنوات أو حتى بلايين، لا أكبر خلالها، ولا يشيب شعر رأسي، ولا أشعر بملل، ولكن ماذا سأفعل؟
قطعا لن تكون المكافأة في الآخرة طعاما وشرابا وجنات تجري من تحتها الأنهار فقط، وملابس من سندس واستبرق، لكنها حياة ممتعة وبهيجة وفيها النور الأكبر .. وجه ربي ذي الجلال والاكرام. يصف العلماء، وينقل عنهم الداعية عمرو خالد، أن بيت المسلم في الجنة طوله ألف عام! تزداد حيرتي فماذا سأفعل بمفردي في كل هذا البيت؟ وهل هناك أثاث وأرائك وفراش للنوم؟ من سيساعدني في تأثيث هذا البيت، وهل سأستقبل ضيوفا أحتاج لألف عام سيرا على الأقدام للترحيب بهم على باب البيت؟ أحاول أن أعصر فكري لمعرفة كنه المناخ والفصول، وهل ستكون هناك شمس أخرى جديدة وثابتة في مكانها، تشرق وتغرب، أم أن الجنة ستدور حولها. وماذا عن الهواء والعواصف الترابية والجاذبية، وكيف ستكون الطرق والحدائق والأشجار؟ هل سيكون هناك مطر وبرد ورعد وسحاب، أم أن الجو أقرب إلى الدفء طوال الوقت؟ ماذا لو أن في نفسي شوقا إلى برد وجليد، يعقبه ربيع تتفتح فيه الأزهار، ثم صيف حار يليه خريف تتساقط فيه أوراق الشجر لتعلن نهاية حياة نباتية تمهيدا لبيات شتوي تستعد فيه الزهور والورود والنباتات والأشجار للولادة من جديد؟ وهل ستكون للأماكن أسماء؟ وهل يمكن أن أنتقل من مكان إلى آخر بعد عدة مئات من السنين؟ هل ستظل الذاكرة قوية في استدعاء أشياء وأسماء أرضية للخيال؟ ستكون الأرض كلها هباء منثورا، وربما تختفي في هذا الكون العظيم ومعها كل الكواكب السيّارة والشمس والقمر فهي مُسَخّرات للانسان عندما كان خليفة في الأرض، أما الآن فهو في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين. تصورات فوق أخصب الخيالات عندما أبحث عن مرادفات أرضية في جنة الخلد! لن يكون هناك مَرَضٌ، أو تخمة من كثرة تناول الطعام، ولن يزداد وزني أو ينقص جراما واحدا، ولكن ماذا عن النوم؟ هل سأنام بعد تعب وارهاق أم بعد راحة واسترخاء؟ ولماذا أنام؟ لن أحتاج إلى نظّارة القراءة أو إلى عدسات لاصقة، فيمكنني القراءة المتواصلة لعدة آلاف من السنوات دون توقف، ولكن ماذا سأقرأ؟ ومن سيكتب ما أقرأه؟ وهل ستكون هناك كتب بالمعنى الأرضي، وطبعات فاخرة، وغيرها؟ لا شك أن المعرفة والتعلم ستكونان على رأس أمنياتي في الجنة، ولعلي لا أصدق تحقيق حلم أقصى درجات المعرفة في قراءة ملايين من الكتب خلال حياتي الخالدة في الجنة، ولكن ماذا سأفعل بكل هذه المعرفة؟ هل سيُبعَث الأميّ في الجنة قارئا، أم سيظل أميّاً مادام حيا في جنة الخلد؟ وهل لو بعثه الله قارئا، فهل ستكون لغته سليمة وفقا لقواعد وضعها علماء اللغة في الأرض التي اختفت من الوجود؟ وماذا عن الاختلافات اللغوية واللسانية؟ سيكون أمرا مدهشا أن يتحدث كل من في الجنة لغة واحدة، هي اللغة العربية، وهذا يعني أن الصينيين واليابانيين والتايلانديين والمنغوليين وكل أصحاب الألسن واللغات العجيبة على الأرض المختفية سيتحدثون لغة عربية سليمة وفصيحة، ولكن هل سنكون جميعا في نفس المستوى الفكري واللغوي؟
أمنيتي هي أمنية كل مسلم، أن أقابل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وأصافحه، وأعانقه، ، وستكون المفاجأة أكبر مما توقعت، فالحبيب المصطفى شاب وسيم في مثل عمري، ولن يعرفني إنْ تقدمت إليه بعدما يجيء دوري في صف طويل من مئات الملايين، فأنا قد عشت بعده بأكثر من ألف وأربعمئة عام، وسيكون اللقاء سريعا جدا، فخلفي عدة مئات من الملايين، وكلهم شباب، يريدون أن يصافحوا خاتم الأنبياء. هل يمكن أن أتخيل حياة خالدة دون متعة وغبطة وسعادة البحر؟ لا أدري إنْ كان بحر الجنة ملحا أو عذبا، وفيه أسماك أم خال تماما منها، ولكن ما أعرفه أنني لن أغرق ولو سبحت سبعين عاما، ولن يتملكني نَصَبٌ أو تعب أو ارهاق.ربما أحزن بعض الشيء، رغم أن الحزن كلمة غير موجودة بالمرة في الجنة، عندما أقابل أحب الناس لي، وهو والدي، رحمه الله، فسيكون شابا صغيرا لم أعرف ملامحه من قبل، فهو مرتبط لدي بالكهولة وبعض الشيب الذي زحف على شعر رأسه، وقليل من التجاعيد التي عرفت طريقها إلى وجهه الكريم، فكيف لي أن أعرفه وهو في عمر ابني، رغم أن ابني في عمر جدي، وجد والدي يماثل في العمر أحفاد ابني؟
يتملكني خجل لعل حروف كلماتي تفصح عنه عندما تقترب من الحديث عن الحور العين، فأكثر من سبعين منها تعود لكل واحدة منهن عذريتها، وفقا لآراء العلماء والفقهاء، لن يترك لي وقتا لشيء آخر، وأغلب الظن أنهن يتحدثن اللغة العربية، ويعرفن اسمي ولقبي، وأن مهمتهن امتاعي قدر الامكان، فأنا شاب مثل كل أهل الجنة، وعلماء ديني يؤكدون لي أن الفحولة ستكون في أقصى قوتها وجبروتها وعنفوانها لملايين الملايين من الأعوام، فماذا سيبقى لي من وقت للحديث مع أحبابي، والتمتع بكل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ لن أكترث كثيرا لمعرفة أسماء الحور العين، ولكن هل هن رهن إشارتي، أم سيُقِمْن معي، خاصة أن بيتي طوله ألف عام؟ هل ستكون هناك علاقة مودة ومحبة مع بعض من الحور العين، وهل كلهن نسخ مكررة، أم أن كل واحدة منهن تختلف عن الأخرى؟ لا أظن امرأة أو زوجة لن تشعر بغيرة منهن رغم أن الشيطان سيكون مصفدا في قيود ويدفع في الجحيم ثمن عصيانه وتحدّيه لرب العزة منذ بدء الخليقة إلى يوم الحشر.
حديث حرج ينبغي أن لا يتناهي بتفاصيله لمسامع الزوجة على الأرض أو حتى في الجنة، فهي تغضب، وتقلب الحياة على رأس زوجها لو أشار لفكرة الزواج من أخرى، فما بالك بأكثر من سبعين من أجمل نساء الجنة لن يتركوا لزوجها لحظة واحدة يختلي خلالها بزوجته؟ ستجابهني مشكلة كبيرة وهي العثور على أصدقائي وأحبابي الذين عرفتهم في الحياة الدنيا، وسأحتاج لذاكرة حديدية تستعيد كل مشهد من حياتي الأرضية الطينية، وهذا يعني أن الخطايا والآثام والذنوب ستمر هي أيضا بخيالي، ولعلها تعكّر صفوه. لا أعرف كيف سيكون تغيير الملابس لارتداء أخرى نظيفة، وهل سأختار غيرها، أم ستختفي القديمة لتحل محلها جديدة تلقائيا؟ رائع أنني لن أحتاج لطبيب أسنان أو عمل حشو لأضراسي حتى لو تناولت سكريات لعدة مئات من السنوات، ولن أقوم بصبغ شعر رأسي فهو سيظل لامعا، نظيفا، جميلا ولن تشيب منه شعرة واحدة، فالخلايا لا تموت، والقلب لن تزداد نبضاته حتى لو بذلت جهودا جبارة في عمل ما. أجلس على أريكة، وأشرب شرابا طهورا، وتمر من أمامي جموع حاشدة قد تصل إلى ملايين من البشر، ولن أتعرف على أحد بسهولة فكلهم شباب في عمر واحد وتبقى مشكلة استدعاء من تعرفت بهم في حياتي الأرضية، ومعرفة إن كانوا يتمتعون بنعيم الجنة أم أنهم في جهنم خالدين أبداً؟
كيف سيكون الاتصال بيني وبين الآخرين خاصة إن كان بعضهم يقيم في بيوت من الجنة تبعد عن بيتي ملايين الكيلومترات وحتى لو ألتقينا، فعن أي شيء سيدور الحديث؟ سيلهج لساني بشكر العلي القدير، وسأحمده وأشكر فضله، وأصلي ما دامت الجنة باقية، وهي حقا باقية وخالدة لزمن لا نهائي لا يستطيع عقلي أن يستوعبه. هل سيكون هناك صباح، وظهر، ومساء، ونور وظلمة؟ لو أنني سقطت من مكان مرتفع في الجنة فلن أموت، ولن يمسني ضرٌّ أو جرح أو تنزف من جسدي نقطة دم واحدة، وهذا رائع بكل المقاييس. سينزع اللهُ الغِلّ من القلوب، وستبقى الرحمة والمحبة والتسامح، وهذا يعني أن كل الذين يسبّونني على النت، ويشتمونني، ويقومون بتكفيري، ويروجون لأحاديث الافك عن تفسيرات لم تخطر على بالي قط، لن يتمكنوا، لو أدخلهم الله الجنة، من ممارسة هواية التكفير والسبّ واللعن. أظن أنني لن أطلق لحيتي في الجنة أو حتى شاربي مع افتراض أن شعر الوجه سينمو ويحتاج إلى قص وتهذيب، أو حلق وتنظيف. يشغلني نظام ميكانيكية الجسد في الجنة، وهل ستكون هناك أمراض من كثرة الطعام، وكيف سيكون نظام الاخراج والفضلات، أم أن عالم الطهارة سيسري على كل شيء، أيضا تلقائيا، حتى مع الحور العين، أي لن أكون جُنُباً للحظة واحدة؟ في الجنة مليارات من البشر ، ومن كل الأجناس والألوان والأزمنة، ولن تكون مفاجأة لي أن أقابل من أصحاب الجنة أصحاب ديانات وعقائد ومذاهب أخرى، فالجنة ليست حكرا على سكان الشرق الأوسط أو المسلمين فقط، والانسان فيه نفخة من روح الله، وهناك طيبون ومسالمون وخيّرون قضوا أعمارهم يبحثون عن الحقيقة، ولم تصلهم دعوة الاسلام، أو قام بايصالها متطرفون ومتشددون فنفّروا الآخرين بدلا من تقديم الاسلام في صورة جميلة ومشرقة. وهناك مئات الملايين قبل كل بعثة نبوية من بدء الخليقة، وأيضا أناس عاشوا في جبال ووديان ومجاهل وعُزلة، وبحثوا عن الرحمن الرحيم دون أن تصلهم دعوة نبوية أو كتاب مقدس، فآمنوا بالله بطريقتهم، وتمنّوا الجنة قدر عقولهم، ووثقوا في العزيز الجبار دون أن يسمعوا حرفا واحدا من كتب الرسالات السماوية. أصحاب الجنة دخلوها برحمة الغفور العزيز الذي يقول للشيء كن فيكون، ولم يدخلوها عن طريق صكوك الغفران أو فتاوى الجمعيات الدينية أو رضا مشرفي المنتديات الانترنتية أو توصية من أمير جماعة اسلامية أو قائمة بأسماء الذين يتابعون قناة ( اقرأ )، أو الذين اكتشفوا أنهم فقط الفرقة الناجية.
في الجنة سأكتشف أن ما أعرفه أصفار لا نهائية ومتراصة بدون أي قيمة، وهذا يعني أن دهشة المعرفة ستكون في قمتها وعمقها وصدقها، فكيف ستكون علاقتي بالمعرفة والعلوم والثقافة واللغة والكتاب؟ سيتمنى كل الآباء والأمهات في الجنة الذين توفاهم الله وأطفالهم في أعمار مبكرة أن يكونوا معهم، ولكن هل سيكبر الأطفال في الجنة؟ وهل سيبلغ الطفل الحُلمَ والمراهقة؟ وماذا سيتعلم من طفولته إلى شبابه؟ وكيف ستصبح التربية إن كان كل شيئ بديعا، ولا يوجد غير الخير؟ ماذا عن كل الاختراعات التي اكتشفها العقل البشري بفضل الله الذي علم الانسان ما لا لم يعلم؟ الكمبيوتر والهاتف والعمليات الحسابية المعقدة والتليسكوب والميكروسكوب والتصوير والترجمة والفنون والآداب والموسيقى والمنطق والألعاب الرياضية والشعر وملايين من أوجه المعرفة، أين ستذهب؟ وهل للانسان في الجنة نصيب منها؟ متعة العبادة دون وسوسة إبليس ستكون أكثر متع الجنة قُرباً لأصحابها، وستخشع الوجوه والقلوب كلها لذكر الله، ولن يكون هناك لغو أو أحاديث في غير موضعها، إنما أكبر مكافآت أهل الجنة، أي أن نرى وجه ربنا ذي الجلال والاكرام. الزمن جديد، ولا أعرف كيف سأقوم بحسابه، فاليوم ليس شمسيا أو قمريا، وعدد ساعاته لن تكون بالضرورة أربعا وعشرين، فقد تكون الشمس الجديدة حاملة كل الفصول، فتشرق وتغرب، ويكون هناك ليل أو نهار، أو حتى لا يكون هناك ليل اطلاقا. كل ما يطلبه أهل الجنة سيجدونه أمامهم، وأظن أنني سأطلب ترجمة عربية لكل الكتب التي صدرت منذ بدء الخليقة، ولكن ماذا عن الكتب التي تتعارض مع المشهد الجديد في جنة عرضها السماوات والأرض، وليس للشيطان فيها أي وجود؟ عندما أرتدى ملابس من حرير واستبرق وسندس خضر، فلن أكون أفضل من غيري، أو يمتدح آخرون في ذوقي، فكل من في الجنة يرتديها، وربما يختار ألوانا أخرى.
هل الأسمر سيبعث يوم القيامة أسمرا، وكذلك الأشقر، والأصفر والقصير والطويل والبدين والوسيم والدميم، أم سيكون كل أهل الجنة بنفس القدر من الوسامة والجمال الباهر والعقل الرزين والعلم المتساوي والايمان الذي لا ينقص أو يزيد عن الآخر قيد ذرة؟ ذوو الاحتياجات الخاصة والمعاقون ذهنيا وخَلْقيّاً حتى لو كانت درجة الاعاقة في أقصاها سيُبعثون، حسب ظني، في حالة صحية وجمالية وذهنية متكاملة، وستكون فرحة ذويهم وأهلهم بهم غامرةً، ولكن ماذا عمن عاش فاقداً للذاكرة، فهل ستكون حياتُه في الجنة بدون ماض أرضيّ يستدعي مَشاهدَه بين ألفينة والأخرى؟ كيف ستكون سرعة السير أو الجري في الجنة؟ وهل سيمكنني الطيران بأجنحة أو بدونها للقاء أحبة وأصدقاء في أماكن تبعد عني آلاف السنين لو حاولت الوصول إليها مهرولا؟ لقائي ببعض الذين تمنيت رؤيتهم في عصور مختلفة من نبي الله يوسف عليه السلام وصلاح الدين الأيوبي والمتنبي وابن رشد وعبد الرحمن الكواكبي سيكون غريبا بعض الشيء، فأنا وأي منهم من أزمنة مختلفة وربما لا أجد أحاديث مشتركة كثيرة، وفي ذهني قائمة بمئات الأسماء على مر العصور التي سأبحث عنها في الجنة، ولا شك أن كثيرين منهم ليسوا مسلمين لكنهم كانوا أعمدة حق صلبة، وصنعوا عدالة، وكافحوا من أجل الفقراء والمساكين والمظلومين. سأكتشف أن المقاييس الأرضية المهتزة والضعيفة وأحيانا الحمقاء والمتخلفة التي أملكها للحكم على الناس كانت أوهن من بيت العنكبوت، فالله، تعالى، هو الحي القدوس الأعلى الذي يُدخل من يشاء في رحمته، وفي الجنة سألتقي أناسا ظننتهم لن يشموا ريحها ولو على مبعدة ألف ميل، وسأعرف أن الجنة لم تكن من نصيب أناس كنت واثقا ثقة اليقين أنهم من أهلها وأصحابها، بل لكل منهم أكثر من بيت فيها. طعام الجنة ليس فقط فواكه من كل الأصناف، وأنا أظن أنها ستكون شتوية وصيفية واستوائية، لكنه طعام لم تر العين مثله قط، ولكن هل ستكون هناك طيور وحيوانات؟ وهل الأسماك بلحومها الطرية في مياه عذبة أم في مياه مالحة؟ أغلب الظن أنني سأبحث عن جهد وعمل مرهق للاستمتاع بالراحة بعدها، فإذا جلست عدة مئات من السنين، وأكلت وشربت وتعبدت وتحدثت أحاديث هادئة وجميلة لا لغو فيها فربما أحتاج للحركة والجري والسباحة رغم أن الجسد في الجنة لا يصيبه ارهاق. وماذا عن الذين فجروا أنفسهم في الأسواق وفي مدارس الأطفال والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، أو الذين ظنوا مخالفيهم في الدين يستحقون القتل والذبح، أو الذين فجروا أنفسهم في حافلات تحمل أطفالا ونساء؟ لن أعثر في الجنة كلها على أي منهم، وأحلام المهووسين جنسا في حور عين ينتظرن على أحر من الجمر انتحار المسلم وهو يفجر نفسه في سوق مكتظة بالآمنين ذهبت أدراج الرياح، واختفت مع أول صرخة حزن وفزع لطفل فقد والده أو والدته دون أي ذنب إلا الثقة بأن الانسان فيه من روح الله فاكتشف أن بعض الناس فيهم من روح الشيطان.
سألت في الجنة عن شيوخ أكثر شهرة من الشيف أطيب، وعن أمراء لجماعات احتمت بالجبال في اليمن والجزائر والمغرب، واختفت كالأشباح في العراق، وفي الكهوف الأفغانية فلم تقع عيناي على أي منهم، لكن ريح المسك اخترقت أنفي جراء مرور أبطال استشهاديين أمامي كان هدفهم الوحيد في الحياة الدنيا قوات الاحتلال من العسكر فقط في كل مكان في العالم شهد ظلم الغزو والاحتلال والقمع والقهر. مدهش أن تكتشف في الجنة كم كنت مخطئا في الحكم على الناس، وأنه لم يدخلها إلا من جاء ربَّه بقلب سليم، وأن أناسا صلوا وصاموا والتحوا وكحّلوا عيونهم وظلوا سنوات طويلة في حياتهم الأرضية ينهون، ظاهريا، عن المنكر، ويتوعدون المشركين والكفار والمخالفين بنار جهنم، لم يفتح رضوان بابها لهم. اكتشفت في الجنة أن مساحة التسامح في قلبك تحدد سعة بيتك فيها، وأن محبتك لكل الناس الذين خلقهم الله وأكرمهم ونعّمَهم هي الطريق الآمن والسليم والمستقيم والأقصر إلى رضوان الله ورحمته وعفوه وغفرانه. سألت في الجنة عن الفرقة الناجية من السُنّة والشيعة واليزيدية والاباضية والجعفرية والعلوية والقرآنيين وكل المذاهب والطوائف فوجدت الجواب في أن الجنة ليست حكرا على فرقة ناجية واحدة، وأن خلافاتنا في الأرض كانت عبثا صبيانيا وحماقة فكرية واستعلاء من أصحاب مذهب يظن كل منتم إليه أن مالك المُلك العزيز الجبار سيقرّبه إليه، ويرسل الآخرين إلى نار جهنم وجحيمها الأبدي. جريمة فادحة ظن الانسان في حياته الطينية على الأرض أنه يتقرب في ارتكابها من الله، عز وجل، فإذا به يسرق عدالة السماء ليستبدل بها ظلم الأرض، وقام بتوزيع سكان الجنة والنار وفقا لمزاجه وكراهيته وحقده ونفسه الضعيفة وتربيته القائمة على أنه الأفضل والأحسن والأتقى، ولم ينتظر عدالة يوم الحشر، يوم يقوم الناس لرب العالمين،
سألت في الجنة عن أعضاء في آلاف من المنتديات الدينية على الإنترنيت الذين كانوا يقومون بتكفير الآخرين، و والتشكيك في إيمان من يجتهد فكريا، واحتكار الفتوى، وغض الطرف عن الطغاة، وتسطيح قضايا حقوق البشر، واعتبار كل من ليس مسلما هو عدو لله وخصم للمسلمين فلم أجد أيا منهم، فقد كانوا في حياتهم الأرضية سيارات مفخخة من الكراهية والبغضاء، وكادوا يمتصون من الشاشة الصغيرة دماء اخوة لهم خالفوهم فاستحقوا غضبهم الحاقد. سألت أيضا عن مسلمين مصريين كانوا يقاطعون اخوانهم وشركاء الوطن من الأقباط بل أيضا ممتلكاتهم، وقتلوا منهم أكثر من عشرين بريئا في قرية الكشح، فلم أعثر على أي أثر لهم ومن آذى قبطيا دون وجه حق، أي لأنه ليس على دينه، فلن يكون له من رحمة الله نصيب. بسطت في الجنة أمنياتي وتساؤلاتي فأنا أمام العزيز الغفار فغمرني نور من الرحمة. هل ستنساب في الجنة أنغام موسيقية هادئة كمتعة سمعية؟ وهل هي أنغام أرضية أم أن الانسان سيبدأ من جديد في اكتشاف ما يبهجه ويزيده سعادة بعيدا عن وسوسة الشيطان؟
لن تكون هناك فائدة لملايين المعلومات الأرضية عن الفلك والتشريح وجيولوجيا الكرة الأرضية والزلازل والعواصف وأنواع الأمراض وعن الفقر والحروب وتاريخ الساسة وحقوق الانسان ومعارك النقابات واتفاقات الهدنة وأسعار الدولار .. ولكن هل سيبدأ الانسان من جديد في التعلم عن حياة خالدة جديدة، وهل ستكون هناك فوارق بين أصحاب الجنة في درجات العلم والثقافة والمعرفة، أم سنكون على قدم المساواة؟ سأكون في شوق جديد لعبادة الله آناء الليل وأطراف النهار ( هل سيكون هناك ليل ونهار )، ولكن أكثر من سبعين من الحور العين سيأخذن كثيرا من وقت العبادة والشكر. لحظات الندم في الجنة كثيرة رغم أن رحمة الله وسعت كل شيء فغفر لنا، وأكثرها هي الساعات الأرضية التي ضاع خلالها الوقت في بغضاء ومشاحنات وكراهية المخالفين والحكم الظالم على الآخرين والظن بأن الله سيكون بدون شك منحازا لرأي أتبناه فإذا بي كنت مخطئا حتى النخاع، فعالم كراهية الآخرين يحرق النفس والقلب ويدمر العواطف ويضع أمام الإيمان ضبابا قاتما يحجب الرؤية. في الجنة بحثت جاهدا عن جماعات كانت تضرب الناس على ظهورهم وتجلدهم لكي يطيعوا الله ولو على نفاق، وعن رجال دين فضائيين أفتوا بقتل من يجتهد، أو يُعمل عقله في ملكوت الله، أو يستخدم رخصة التفكير التي منحه إياها العلي القدير فلم أجدهم. بسطت أيضا أمام الله أمنيات وتساؤلات لو كتبت عنها في هذا المقال لصدرت فتوى بقطع رقبتي، أو أمر شيخ الأزهر بجلدي ثمانين جلدة كأنني أهنت رئيس الدولة وهو زي الفل، فقررت المرور عليها مر الكرام فهي بيني وبين خالقي الأعظم، فوجدت الله أكثر رحمة ومغفرة مما تخيلت طوال حياتي الأرضية الطينية. وهنا .. وجدتني قد استيقظت من حلم بين الغفوة والنعاس، وقفزت أمامي من الشاشة الصغيرة شياطين تضرب بأصابعها النارية الكيبورد، فهي لم تفهم مشهدا واحدا من مشاهد حياتي في الجنة!
محمد عبد المجيد رئيس تحرير مجلة طائر الشمال أوسلو النرويج