Apr 6 2010
هل نأكل لنحيا أم نحيا لنأكل؟
بينما أنا جالس على أحد مقاهي وسط البلد المسماة بـ"البورصة"، أقبل عليّ صديقي متجهم الوجه يعلوه حمرة تعبّر عن غضب بالغ، أجلسته على مهل، وبدأ يحكي على طقطقات الشيشة كيف أن مديره بالعمل مسح كل ما تبقى له من كرامة؛ بعد أن ساهم في تأخير تسليم طلبية خاصة بالمصنع، وأخذ يسخر من شكله، ومن سمنته المفرطة التي تقتات على أموال المكان، بينما هو لا يعمل بقدر ما يأخذ... إلخ، شردت مستغرباً وتواردت إلى ذهني بعض الخواطر.. أهمها...
"الكرامة" قيمة غالية يهبها الله للإنسان مجاناً مع أول صرخة حياة تبدأ صغيرة معه؛ حيث يكون طفلاً لا يتحكم بإرادته، وتخضع اختياراته لرغبات الآخرين (الأب والأم)، ثم يبدأ شيئاً فشيئاً في التحرر من تلك القيود، ويزيح التراب من على هذه الجوهرة حتى تلمع وتبرق وتتلألأ بنضوجه وفرضه تدريجياً لمسئوليته على ما يفعل من قرارات، وما يسلك من طرق واختيارات.
إحساس رائع أن يكون الإنسان حرّ نفسه، أن تكون كرامته بوصلة تحرّكه وخطاً أحمر محاطاً بالكهرباء والأسلاك الشائكة التي تفترس كل من يحاول الاقتراب منها أو تخطيها أو إهانتها، هذا السلك الشائك لا ينتشر حول الكرامة إلا بعد جهد حقيقي يبذله الشخص من أجل حفظها وإبقائها بعيدة عن أي إهانات.
وللأسف هنا في بلدنا مصر، كثيراً ما نتنازل طواعية عن كرامتنا في عملية نفاق دبلوماسي حياتي اجتماعي... إلخ، ثمن بخس "من وجهة نظره" للوصول إلى ما يبتغيه، طريقة سريعة لتحقيق الأموال، أو النفوذ، أو الحصول على ترقية وظيفية أو... أو... أو.
يعتقد فيما يفعل تنازلاً مقبولاً لا يضير، ولكنه مع الوقت يكتشف الكارثة، مع الوقت يكتشف أنه فَقَدَ كرامته، أصبحت إهانته متاحة، أصبح التعدي على سيرته غياباً أو حضوراً شيئاً لا بأس به، وربما لا يزعجه هو شخصياً، أصبح غير قادر على اتخاذ الموقف الحاد في الوقت المناسب من أجل ردع عمليات التعدي المنظّمة التي تتم يومياً على كرامته في العمل وفي الشارع وفي كل مكان، فَقَدَ القدرة على استرداد كرامته.
منطق "أكل العيش" ذلك المنطق المهين الذي يتخذه كثيرون حجة لتقبّل مرارة الإهانة من المدير بالعمل أو من الكفيل (لو كان يعمل بالخليج) أو حتى من ضابط الشرطة أو من أي صاحب سلطة ونفوذ، لو أنه يعلم أن صاحب العمل لا يعطي بل إن الله هو مَن يعطي، لو أنه يعلم أن الله يرزق وليس صاحب العمل، لاحتفظ بحدود كرامته كما هي سالمة دون إهانة.
ولكن ليس فيما سلف دعوة عامة للعِصيان؛ فالثأر للكرامة والانتفاض لها يكون عندما تتخذ من الحق جانباً لك ومنهجاً لا تحيد عنه، تنتفض للكرامة عندما تستوفي ما عليك من واجبات، عندما تقدّم ما هو مفروض عليك من التزامات، ووقتها يكون الدفاع عن الكرامة عندما تجد فيما يوجَّه إليك إهانات تنال من شخصك ومن كرامتك.
منطق "المطاطية" للأسف أثّر فينا بصفة عامة كشعب؛ فتحوّلنا من المستوى القاعدي (على مستوى المهن والأعمال) إلى مطاطية على مستوى الشعب ككل، وهو للأسف ما أشاع عنّا "خطأ" بأننا شعب "يعمل أي حاجة عشان الفلوس"، فيقبل الإهانة، وأحياناً الضرب من الكفيل "عشان الفلوس"، وينصاع لإهانات مديره بالعمل "عشان الفلوس"، ويقبل إهانات بعض ضباط الشرطة له في الشارع حتى لا يودع بالسجن، فينقطع عن العمل، وينقطع عنه مصدر رزقه برضه "عشان الفلوس".
وعلى مستوى الحكومة للأسف "طاطينا" وضاعت كرامتنا برضه عشان الفلوس، فقدنا هيبتنا ودورنا الإقليمي في الخليج؛ بسبب فلوس الأمراء ومعوناتهم ومساعداتهم الاقتصادية ومشروعاتهم التنموية... إلخ، فقبلنا جلد الأطباء؛ بسبب الفلوس، وتركنا الأمير يهرب بعدما دهس العشرات في سباق "تفحيط سيارات" على طريق المطار برضه عشان الفلوس.
وبسبب الفلوس ذاتها قبلنا تدخلات العم سام الصارخة في شئوننا الداخلية، وفرضها علينا اتفاقية مثل اتفاقية "الكويز"، وقرارات أخرى فُرضت علينا في ظاهرها حفظاً لكرامتنا وفي باطنها اغتصاباً لها، وبسبب الفلوس ضاعت هيبة الدولة داخل أراضيها أمام رجال الأعمال؛ فالقرارات تصدر كي تُحفَظ في أدراج المكاتب، وأحكام المحاكم -للأسف- تنفّذ بعد سنوات عدة يسقط فيها الحُكم ويموت المحكوم عليهم في أحد منتجعات "هاييتي" بعدما انهدمت الجزيرة على رؤوسهم بعد الزلزال الأخير.
ما لا يعرفه هؤلاء أن "الفلوس" تذهب وتعود، ولكن "الكرامة" عندما تذهب فإنها أبداً لا تعود، ونحن الآن على حافة لحظة تاريخية نحتاج فيها أن نتخذ قراراً.. هل نبيع طعامنا مقابل كرامتنا أم نبيع كرامتنا مقابل طعامنا؟!! إن الأمم تأكل كي تحيا مستمتعة بكرامة أبنائها، والبعض الآخر يحيا كي يأكل، والعار متوّجاً رؤوسها، بينما الجميع يذله بلقمة العيش مستشهدين بقصيدة الزعيم عادل إمام التي لم تؤلّف يوماً: أبيع نفسي.. فقد اشتراها بالفلوس كما هو حال كل شيء.