Apr 6 2010
الشعار: لا أرى ولا أسمع لا أتكلم
فتاة شابة صغيرة غادرت عالم الطفولة منذ سنوات محدودة، بل وربما شهور، لم يتجاوز عمرها السبعة عشر عاماً، طالبة مجتهدة حتى أنها قد حصلت على جائزة من المنطقة التعليمية، بالتأكيد خرجت من منزلها سعيدة تقف أمام المرآة لثوانٍ تعدّل من "مريلتها"، تذهب ثم تعود مرة أخرى، وتقوم بضبط حجابها الناصع البياض فوق رأسها، فبعد قليل ستصعد على المنصة أمام الجميع، المحافظ ومدير التربية والتعليم لتتسلم الجائزة، ربما شردت بأحلامها، فتخيلت وهي ترفعها عالية، أو وهي تلوّح بها لوالدتها الجالسة في الصف الأول تغمرها السعادة بتفوق ابنتها..
بالطبع توقعت أن الحياة ليست بهذه الوردية، وأن الفتاة لن تتسلم جائزتها، فهكذا تسير الأمور.. لقد صعدت الفتاة بالفعل فوق المنصة، ورآها الجميع، ولكن لا هي تسلمت الجائزة، ولا لوّحت بها لوالدتها، ولا والدتها فرحت بها..
لم أعرفك على الفتاة بعد؟! الفتاة طالبة تُركية في المدرسة الثانوية من مدينة "أدنا"، وسبب عدم تسلمها للجائزة هو أنها ترتدي الحجاب..
فلقد ترك مدير التربية والتعليم والمحافظ وقائد المنطقة العسكري كل شيء، ليأخذوا في التداول من مقاعدهم معترضين على وقوف الفتاة بالحجاب بين الفائزين فوق المنصة، وفي النهاية تفتّق ذهنهم عن إنزال الفتاة بشكل مهين ومُذلّ من فوق المنصة، وعدم تسليمها جائزة التفوق..
الموقف مؤلم للغاية عندما تشاهده، وربما وجدت عيناك تطفر منهما الدموع، تألماً للموقف الحرج الذي تعرضت له الفتاة، ومظهرها وهي تهبط من فوق المنصة باكية..
ولكن بكل أمانة ليس هذا أهم ما شد انتباهي في الموقف، بل موقف الفتاة بعد ما تعرضت له من الإحراج، فلم تغادر القاعة على الفور مطأطئة الرأس، ولم تدفن رأسها في أحضان والدتها خوفاً وخجلاً، بل اتجهت لمدير التريبة والتعليم، وبكل جرأة سألته أمام الكاميرات: لماذا منعت عني جائزتي؟
ورغم إجابة المدير الخالية من أي شفقة أو معنى، فقد أجابها: "إن هذا ما رأيناه مناسبًا، وانتهى الأمر، اذهبي إلى مكانك"..
لم تتراجع الفتاة، بل استدارت وهي تقول له: "سيدي الذي فعلتموه انتهاك كبير للحق".
موقفها وجرأتها هذه دفعت بعض أفراد الحكومة المتواجدين في القاعة إلى الانسحاب من الاحتفال اعتراضاً على ما حدث معها..
وعلى الفور تناقلت الأخبار ما حدث مستنكرين تماماً ما فعله مدير التعليم ومن معه.
هذه الفتاة لم تجبُن كما الجميع، لم تتراجع عن حق لها، وهو أمر مفتقد بشدة في عالمنا الآن..
تجد الشخص على صواب، وكل الحق معه، ولكن عند المواجهة يتراجع خوفاً أو خجلاً، بل وربما يتحمل في سبيل هذا التراجع، عناء أشد مما كان سيتحمله لو أنه قرر المواجهة من أجل حقه، ولكن رغم ذلك لا توجد لدينا ثقافة المواجهة في الحق.
انظر لهذه الفتاة الشابة وقد ركبت الحافلة العامة، الحافلة مزدحمة، والفتاة تحاول أن تجد موضع قدم بعيداً عن الزحام والأجساد المتلاصقة، في ذات الوقت يتربص بها ذاك الشاب مضايقًا لها..
انظر لرد فعل الفتاة، وهي تنكمش في ذاتها، وكلما زاد الشاب من تقاربه ومضايقاته زادت من انكماشها وتراجعها حتى كادت تخترق جدران الحافلة الحديدية هرباً من مضايقته، ورغم ذلك لم تملك الجرأة على أن ترفع صوتها ناهرة إياه، سيدة أخرى شاهدت الموقف فانطلقت صارخة في الشاب ونهرته، وعلى الفور تراجع الشاب وهو يتلعثم محاولاً إيجاد تبريرات واهية، ثم غادر الحافلة بأكملها، فالشاب يعرف أنه مخطئ ويتعامل من منطلق اللص الذي يعرف أنه على خطأ، نظرت الفتاة للسيدة بامتنان ودموع الغيظ والانتهاك تتجمع في عينيها..
يمكنك دائماً أن تفهم موقف الفتاة حتى لو لم تتفهمه، فالفتاة خائفة مما تعتقد أنه فضيحة، تخاف أن ترفع صوتها وأن تعترض، وأن تواجه فتُتّهم هي، أو يُنظر لها نظرة دونية مِمن حولها، لقد تقبّلت مضايقات أشد من كل ما كان يمكن أن يحدث لها، فقط لجُبنها عن المواجهة.
موقف آخر ربما أقل مأساوية، انظر لأي طابور في مصر، طابور عيش، طابور في بنك، أو في أي مصلحة حكومية، أو حتى داخل السوبر ماركت، الكل مرهَق والكل يعاني، ويأتي شخص ما من الخارج، بكل جرأة يقتحم الصف ليتوجه إلى الشباك لينهي مصلحته قبل الجميع، راقب من فضلك ردود فعل الواقفين..
ستجد من ينفخ غاضباً دون أن يتكلم، ومن يتكلم بصوت خفيض مردداً كلمات ساخطة لا تصل، ومن يعبّر عن غضبه بكلمات شديدة واضحة، ولكن لمن يقف أمامه في الطابور.
فقط عندما يقرر أحدهم الحديث والاعتراض يتجاسر الجميع، ليهزوا رؤوسهم موافقين متمتمين بعبارات غير مفسرة..
على الفور ستجد مخترق الصف قد تراجع ليبرر فعلته بحجج مثل: أن طلباته قليلة أو أن مصلحته هينة أو أنه صاحب مرض -رغم وقوفه أمامك شاباً وفير الصحة- وعندها أيضاً فقط نفس الشخص الذي ملك الجرأة وتجاسر على الاعتراض أول مرة هو من سيرد في الثانية، ليخبره أن الطابور بأكمله يحوي أشخاصاً لهم مثل حالته، فعليه أن يقف في الطابور مثل الجميع..
وهنا سيتنفس كل الواقفين الصعداء، لقد جبُنوا عن المواجهة كالعادة، وانتظروا أن يأتي الفرج من الخارج..
دائماً من يجبن ينتظر آخرين ليردوا له حقوقه، أو ينقذوه، سيبقى تحت رحمة غيره؛ إما أن يتقدموا هم ويعيدوا له حقوقه، أو يتراجعوا مثله فتضيع الحقوق إلى الأبد.
والحقيقة أن صاحب الموقف الخاطئ غالباً ما يكون هو الجبان؛ ففي قرارة نفسه يعرف أنه على خطأ، ويتوقع أن يواجهه شخص ما، ولكن بكل أسف من يملكون القدرة على المواجهة وعلى المطالبة بحقوقهم أصبحوا قلة قليلة، على وشك الانقراض..
ولذلك فلا غبار على كل من قرر أن يستغل أو يرتكب خطأ ما؛ فالمثل الشعبي يقول: "يا فرعون مين فرعنك؟ قال: ما لقيتش حد يصدني"..
لذا فإما أن نتعلم المواجهة، أو نحترف أن نكون ضحايا.