مصر التي جمع شعبها العريق أغرب متناقضات البشرية
جاء صديقي من غربته في إحدى دول الخليج، وأخذ يسألني عن السبب في تردي أحوال مصر، والفقر الذي يزيد يوماً بعد يوم، والقهر والظلم الذي أحاط بنا، وبينما كنا نسير على الكورنيش، وقبل أن يطلب مني الحديث بعد فترة من الصمت فاجأنا سائق تاكسي بعبارة كتبها على خلفية سيارته: "عليّ الطلاق ما حد فاهم حاجة". تطلّعنا لها سوياً، وأخذتنا هستيريا الضحك، وكانت العبارة كفيلة أن تخرجنا من مأساة السؤال، ومأساة الرد عليه..
فمصر الحبيبة العجيبة جمع شعبها العريق أغرب متناقضات البشرية في زمن النكسة الذي نحياه..
فهو من أفقر شعوب الدنيا، غير أنه من أكثرها حرصاً على المظاهر الكاذبة، ولهذا فهو صاحب المثل الشهير "أقرع ونُزَهي"..
ثم هو من أجدع شعوب الأرض وقت الشدة، إلا أنه صاحب اختراع "إردب ما هو لك ما تحضر كيله.. تتغبر دقنك وتتعب في شيله"..
ثم هو الشعب الذي نزف الدماء والاقتصاد في حروب الشهامة والجدعنة والدفاع عن التراب الوطني.. إلا أنه لا يتجرأ ويدافع عن حق أهل بيته في ألا تتركهم الحكومة ليهال عليهم التراب أو يبتلعهم البحر أو تهوي بهم الرياح في مكان سحيق تحت قضبان القطار المحترق..
ثم هو شعب المواقف غير أنه صاحب اختراع "اربط الحمار مكان ما يقول صاحبه"..
وهو الشعب الشجاع الذي ترى الواحد منهم يواجهك بكل قوة؛ فقط لأنك أضعف منه، فإذا ما جاء الأقوى سكت كأن على رأسه الطير.. وحتى لا نذهب بعيداً شاهد نموذج لسائق ميكروباص وهو يخترق الحواجز والطرقات ويشتم الراكب إذا قال له: "من فضلك وطي صوت الكاسيت شوية".. ثم تجده وقد تحوّل إلى حمل وديع حين يوقفه شرطي المرور بكل شياكة واحترام! واسمع الشرطي وهو يقول له: " انزل ياله، ووريني رخصك"..
واستمع لنفس السائق الذي كان عنتر مع الراكب، وهو يقول لأمين الشرطة:- حاضر يا باشا.. بس تؤمرني هو أنا غلطت يا باشا؟
أمين الشرطة: اخرس يا له.. إنت شارب حاجة ع الصبح؟
فيرد السائق بمنتهى الأدب: لا يا باشا والله.. حد الله..
ويكاد يقبّل يدي أمين الشرطة ليقبل منه الرشوة، وهو يعلم تماماً أنه لم يخطئ، فقط أمين الشرطة عاوز يشرب كوباية شاي ع الصبح يا غجر.. يعني هيدفع تمنها من جيبه! وهو واقف يحرس الطريق وينظّم المرور..
شعبنا الطيب هذا الذي يجري بالأعلام على استاد الكرة هو نفسه الذي يلقي بالمخلّفات من زجاج السيارة في الميدان العام.. وهو الذي يسبّ بلده ليل نهار؛ لأنه لا يجد روحه فيها، ويسبّ ويلعن تصرفات الحكومة -في سرّه- لأنها المسئولة عما وصل إليه حاله وحال وطنه..
والمصريون هم أكثر شعوب الأرض انفصالا عن أعضاء مجلس الشعب، لكنهم أكثر الشعوب تغنيًا بهم حين يرفعون لافتاتهم، وتجد البعض منهم يرقصون أمام الدوائر الانتخابية، وكأن هذا العضو الذي يشجعونه سوف يعبر بهم المحيط أو يصعد بهم للقمر!!
شعبنا هذا الذي وصلت نسبة أميته لأكثر من أربعين بالمائة، يظن الواحد منهم أنه أعلم أهل الأرض، وأنه يعرف ما لا يعرفه أحد حتى ينطق البارع توفيق الدقن في فيلم الحرافيش: "لما كل الناس فتوات أمال مين اللي هينضرب؟"..
هذا الشعب البسيط الفقير المتدين هو الذي يفسد الزيجات لأجل المهر أو المؤخر أو كرسي في قائمة المنقولات..
ناهيك عن مثقفينا الأجلاء الذين باع أكثرهم القضية بعد الجوائز الأدبية الرفيعة التي حصلوا عليها من حزب الحكومة أو حكومة الحزب، والبعض الآخر أصابه الغرور وظن نفسه فوق أهل زمانه، والصادقون منهم أصاب معظمهم اليأس.. والبقية الباقية يصدُق عليهم المثل المصري القائل: "بيأذن في مالطة.. أو بيغني على جماعة طرش"..
إن المتناقضات في وطننا هذا كثيرة، رغم مظاهر التدين التي غطّت الآفاق، والخلاف على اللحية والحجاب والنقاب وصوت الأذان.
أما كارثة الكوارث فهي أننا نسينا فضيلة مهمة في علاقة كل منا بنفسه وفي علاقة كل منا بالآخر هي فضيلة "الاحترام".. افتقدنا قيمة "الكبير"، وكل واحد فينا عاوز يعيش من غير كبير.. معظمنا واقف وقفة أحمد السقا في فيلم "الجزيرة" بس من غير قضية، وبيقول في نفسه: "من النهارده مافيش حكومة.. أنا الحكومة"..
سرحت في كل هذا، وأخذت أتمتم ببعض منه، ثم عدت لصديقي العزيز، وقلت له: تفتكر مصر محتاجة إيه علشان تفوق من الهم ده؟؟ فسكت قليلاً، ثم قال:
يا عزيزي.. نحن في حاجة إلى زلزال قوي.. زلزال بقوة 10 بمقياس ريختر، لنفيق من هذا النعاس.. زلزال لا يضرب البيوت ويشرد الفقراء على مثال زلزال 92، ولكنه زلزال من نوع آخر، يهز القلوب والعقول ويهدم أوكار الفساد في نفوسنا، ويقضي على اليأس والخضوع الذي أصابنا..
ولما وجدته جاداً فيما يقول، وأخذته الحمية وعاد للنكد الأزلي، فاجأته بالسؤال:-تفتكر لو سواق التاكسي اللي عدى سمع منك الكلام ده هيقتنع؟
فعاد يضحك بكل ما فيه من إحباط. وأجابني:لا طبعا.. ده هيبص لك بمنتهى الاحتقار وهيرجع يبص على الطريق وهو بيقول في نفسه:
-"عليّ الطلاق ما حد فاهم حاجة"